الخرطوم.. رائحة الدماء والبمبان

ذات يوم أثناء عودتي من مشوار طالت ساعاته، وبعد عناء يوم طويل استقليت إحدي الهايسات المتجه نحو شرق النيل، فأخد السائق شارعا مختصرا ومر بصينية بري، ومن هنا بدأت الحكاية
المقعد الأمامي كانت تستقله سيدة وتحمل في حجرها فتاة لا يتجاوز عمرها الخمسة أشهر، كادت أن تموت في لحظاتها الأولى عندما استنشقت كميات كبيرة من سحب البمبان التي تكونت داخل الهايس، و التي كانت تطلقها السلطات الأمنية على عدد من الثوار الذين لا يتخطى عددهم الخمسون ثائر تقريباً، ولكن عبوات كثيرة جداً من البمبان أفرغها أفراد الأمن عليهم لدرجة أن الأدخنة المتصاعدة منها كونت سحب وكأنها المزن في عز الخريف (والله جد)!
كل من في الهايس أدمعت عيناه ورغم ذلك كان الجميع قلقون جداً على الطفلة ذات الخمسة أشهر حين دخلت سحائب البمبان وتسربت إلى داخل الهايس، وصعب على تلك الصغيرة تحملها وهي تبكي متوجعة صارخة بكل ما أوتيت من صوت، ودموعها غطت وجهها بالكامل لدرجة أنها أخرجت الزبد من فمها وباتت والدتها تصفع في وجهها وتلطم قائلة (سجمي بتي حتموت) تخيل!
ظن الجميع أن الصغيرة ستفارق الحياة حتماً بسبب عدم تمكنها من تحمل البمبان (شطة بس) وصعوبة التنفس، فقد تحولت ذرات الأوكسجين إلى سحب بمبان، ولكن رحمة الله كانت واسعة عليها وعلى من بالهايس من مرضى وكبار السن الذين ضاق نفسهم وبمجرد أن عبر الهايس من (مكان الجوطة) وتجمع الثوار عادت الفتاة الصغيرة إلى ضحكاتها بعد أن رسمت ملامح حزينة ودموع باكية بوجوه الذين كانوا بالهايس وكادت أن تودعنا جميعا، ورغم أن ابتسامتها مختلطة بالدموع والبكاء الا أن الجميع تنفس الصعداء وعلق أحدهم ممازحاً (إنتو بالجد جيل الثورة) ولكن أظن أن هذه الصغيرة لن تنسى هذا اليوم ابداً طيلة عمرها القادم حتي وإن لم تتذكر تفاصيله سيبقي عالقا في ذاكرتها وإن كان كالرهاب وستحكي لصديقاتها ذات ونسة مستقبلية عن هذا الفيلم المرعب والنضالي في ذات الوقت.
نعم هي أجيال تربت على سحائب البمبان ورضعت الثورة من أثداء الأمهات الثائرات المناضلات وتعلموا أصول الحق والدفاع عن الوطن، من ثوار استطاعوا أن يجتازوا وابل الرصاص بصدور عارية وصمدوا أمام كل الذل والخضوع فقط ليحيا الوطن كريما معافى فقط لنيل حياة أفضل وفقط من أجل الحرية والسلام والعدالة التي رفع شعارها ثوار أحرار وحمتها جهات آمنت بها وبحق النضال السلمي.
ولكن إلى متى سنظل نفقد يومياً واحداً تلو الآخر من خيرة أبناء الوطن، والى متى سيظل السودان في وضع اشتباكات وعمليات كر وفر، وإلى متى سنعيش قلق الفقد واحتمالية الموت في الشارع، وإلى متى ستحمل الأمهات هما ويعشن مرارة الفقدان، وإلى متى سترمل زوجات، ويزيد عدد الأيتام، وإلى متى سنخرج ونحن خائفين العودة وفي يدنا شهيد أو مصاب، هذه البلاد تسع الجميع شرقا وغربا جنوباً وشمالاً وخيراتها تكفي دول مجاورة بل العالم أجمع، ارجو أن يتفق الجميع وإعلاء مصلحة الوطن ولأجلنا جميعا دون استثناء
جرأة أخيرة
أتمنى أن يجد السودان حظه من الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي فقط لأن شعبه يستحق ذلك (والله جد)!

شاهد أيضاً

مشاهدات وانطباعات يكتبها : خالد ساتي … مزاج سوداني 

الشروق نت  مزاج سوداني الدائرة الضيقة التي سجنت خيال البرامج الغنائية لسنوات متطاولة لم تشفع للقنوات …