الخميس , نوفمبر 21 2024
aren

مشاهدات وانطباعات يكتبها : خالد ساتي … مزاج سوداني 

الشروق نت 
مزاج سوداني الدائرة الضيقة التي سجنت خيال البرامج الغنائية لسنوات متطاولة لم تشفع للقنوات الفضائية السودانية في محاولاتها الخجولة كي تتجاوز الفكرة الواحدة والتي ان كانت جاذبة ومؤثرة في زمنية ما لم تعد كذلك الآن في ظل الاجترار الكسول والنمطية المملة والدوران في ذات الفلك الواحد .
بميلاد برنامج ( مزاج سوداني ) الذي تقدمه يوميا في رمضان قناة الشروق انكسرت الدائرة وانفتحت نافذة جديدة نحو فضاء خصيب المخيال وسمحت بتمرير أكسجين كامل النقاء لرئة الفضائيات التي كادت فعليا ان تحترق مواعينها البرامجية المترهلة والمكرورة .
نحن هنا بصدد انموذج برامجي قائم على التخصصية وليس الاجتهادات العابرة .. بصدد فكرة مستحدثة وغير مسبوقة من حيث الشكل والمحتوى .. بصدد احتفاء بالنقد الموضوعي والمؤسس .. وقبل هذا وذاك بصدد الكشف عن المكنون من درر نادرة في التجربة الغنائية والموسيقية السودانية ضمن مناخات تتجاوز الاحتفاء المناسباتي الى الابحار المتعمق في هذه القوالب الفنية والوقوف على تجارب مختلفة ومغايرة تستحق التوثيق لها والاعتناء كثيفا بمن اوجدوها شعرا وتلحينا وغناء وموسيقى لتستقر في المكان الذي يليق بها .
لؤي عبدالعزيز هذا الموسيقي الشفيف الذي ظل يسكب روحه على أوتار الكمان بحب وصبر وتجرد استطاع ان يأخذنا بمحبة الى عالم جديد وانيق من خلال برنامج (مزاج سوداني ) الذي ليس المقصود منه بأية حال مجرد الغناء لأجل مجرد الغناء بل ينبهنا بذكاء لميراث متجدد من الابداع السوداني الخالص ضمن اسئلة بسيطة في مبناها عميقة في معناها تمثل اجابتها مرتكزا استشرافيا لتحديث وتطوير مسيرة الأغنية السودانية ضمن فلسفة المزج التي اعتمدها البرنامج بين ماهو قديم وماهو جديد وصولا للقادم الذي هو بكل تأكيد سيمثل مستقبل الأغنية السودانية الافضل رغم الذي تعرضت له من تشويه وتهكير في زمنية البحث عن الانتشار السريع والتكسب الرخيص .
فكرة (مزاج سوداني ) لم تقم على حشد نجوم غناء الساحة الآن ولا حتى استحضار لكم هائل من الآلات الموسيقية بل اكتفت بعدد قليل من هذا وذاك انتقتهم بعناية فائقة تمتلك قدرة مدهشة على إيصال الفكرة التي تراهن على المحتوى الأكثر أحقية بالاحتفاء واكثرقدرة على تقديم الانموذج موضوع كل حلقة من البرنامج.
والمؤكد أن قاعدة ترك الخبز لخبازه كانت هي فرس الرهان في انجاح هذا البرنامج الاستثنائي فالذي يقدم البرنامج هو عازف وباحث ومطور موسيقي دارس ومتخصص وله خبرات متراكمة وتجارب متصلة في هذاةالمجال اما ضيوفه فهم الدكتور انس العاقب الأكاديمي والملحن الموسيقي المرموق والزبير سعيد صاحب التجربة المهنية والمحترمة في النقد الفني وكلاهما اتحفنا برؤى شديدة العمق تجاوزت أنماط التحليل التبسيطي والنقد الانطباعي الى اشتغال حقيقي وجاد على اطروحات وافكار البرنامج التي تسعى الى تحقيق غايات تتجاوز الطرائق التقليدية في قوالب البرامج الغنائية الى خلق وابتكار مساحات خضراء للتفكير بعمق في كل نموذج والبحث عن مناطق الجدة والاختلاف .
وفي ذكاء برامجي لافت خصص (مزاج سوداني ) نصيبا وافرا من حلقاته للموسيقى البحتة وهي خطوة جريئة باتجاه ضرورة الاحتفاء بموسيقانا وعازفينا وارساء ثقافة التذوق الموسيقي التي لم تجد حظها ومكانتها وظلت رديفة للطرب والغناء وحبيسة لادراج مؤلفين موسيقيين سودانيين لم تسلط عليهم الاضواء ولم يجدوا مايستحقون من التكريم والاحتفاء .
وبذات التخطيط الواعي لفكرة البرنامج كانت حلقة المقارنات الرائعة بين الموسيقى السودانية والموسيقى الهندية التي عرفتنا باوجه الشبه ومواطن التأثير وخصوصية الانتماء للسلم الخماسي .
اما الرؤية الاخراجية التي اوكلت للمخرجين عبد الرحمن سوركتي وخالد بابكر فقد قدمت لنا وجهة نظر مختلفة نأت بنفسها عن اشكال البهرجة الديكورية الزائدة التي ظلت تدور في مناخاتها معظم البرامج الغنائية وحولتها لمايشبه سيرك للالوان وجوقة من المهرجين . واكتفت بصورة مرئية جميلة ومرتبة وضمن مكانية وقورةمزينة بألوان تليق بروح الفكرة في تجلياتها الروحانيةوبوحها النغمي الشفيف من خلال الاستخدامات الموحية للاضاءة والتوظيف العالي للقطات ذات الأثر الرديف للمعنى والموازي للفكرة.
(مزاج سوداني ) في اعتقادي كسب الرهان بامتياز لانه باختصار أعلن عن نفسه ليضع بصمته الخاصة ولم يقع في فخ التقليد الأعمى لبرامج اصبح الكثير منها بحاجة لمراجعة وربما الاستثناء الذي لايقل أهمية من حيث المحتوى برنامج (فن زمان ) وان كان الاختلاف الذي ميز كل منهما ان (فن زمان ) ظل معنيا بالتوثيق بينما (مزاج سوداني ) أقرب للنقد والتحليل وتقديم الثقافة الموسيقية والغنائية.. نقول بذلك دون التقليل من كل جهد يبذل في البرامج الاخرى على كثرتها واضعين في الاعتبار الأهمية الريادية لبرنامج (اغاني وأغاني) آخذين على البرامج التي جاءت من بعده انها سارت بصورة أو اخرى في ذات المسار في حين كان بالإمكان أن تنحاز لماهو مختلف مثلما فعل( مزاج سوداني ) ومن قبله (فن زمان ) .

Check Also

جرأة قلم/ دارالسلام علي/ مدرسة أم ساحة قتال؟!!

وثق مقطع فيديو تداوله العديد بكثرة الأيام الماضية تفاصيل معركة حقيقية احتضنتها قاعات الدرس باحدي …