رقم صادم جداً كشفته صحف الأيام الماضية بمناسبة اليوم العالمي للصحة النفسية. وهو تردد حوالي (200) مريضٍ نفسيٍّ لمستشفى التيجاني الماحي للأمراض النفسية يومياً. وأعلنت وزارة الصحة الاتحادية عن زيادة في عدد حالات الإصابة بالأمراض النفسية.
الخبر كان مفجعاً للكثيرين، ولكنني وغيري كثر أيضاً لم ترتسم علامات الإندهاش على وجوهنا بسبب ما نراه من مشاهد مؤلمة لأشخاص يتحدثون مع خيالاتهم في المواصلات والأماكن العامة. وأكيد -سيدي القارئ- قد لحظت ذلك عند استقلالك لمركبة عامة، فقد تنتبه فجأة أن أحدهم يؤشر ويلوّح وكأن أحداً ما أمامه وعندما تركز معه قليلاً ستجده غارقاً في دهاليز حيرته وضغوطاته النفسية والمادية والاجتماعية والسياسية حتى، وذلك لكثرة الكبت والأزمات التي أدت بالبعض لعدم اكتراثهم لوجودهم في أماكن عامة أو غيرها، وهو في ساعة حوار من ذاته ولكن بصوت مرتفع، بل أحياناً قد يعلو صوت (الشكلة الذاتية) غير آبه بالمحيطين حوله.. فهل هؤلاء يُعدّون من ضمن المرضى النفسيين (هل ولا ما هل)!!
قبل سنوات أجريت حواراً صحفياً مع البروفيسور علي بلدو اختصاصي الصحة النفسية، أكد لي أن بعد مضي سنوات سيصبح غالبية الشعب السوداني (خارج التغطية العقلانية)، أي مجانين (ااي والله)!.. حينها أذكر أن الكثيرين قد هاجموني وبلدو، بأننا غير (جادين) وأن بلدو قد تأثر بمجانينه… حتى أذكر أنني مازحته بذلك ضحك قائلاً (ح تشوفي يا دار السلام)، يمكن أن بلدو تبنأ بالمزيد منهم لكثرة أعداد المرضى الذين يرتادون عيادته، ويمكن أن يكون قد قرأ المستقبل الاقتصادي والاجتماعي ومدى تأثيره على نفسيات البعض.
قد تختلف نسب الجنون والمنطق، ولكن هناك مقولة تقول إننا كلنا مرضى نفسيين لكن بدرجات متفاوتة، تحت التمرين. نعم، فالجنون يشمل أشياء عديدة وتتراوح نسبه أيضاً، ولكن الحكمة في التحمل وقوة الفرد منا على تجاوز الضغوطات والظروف وكيفية التعامل معها، فهنالك من يتحمل والآخر ينفجر غاضباً والبعض يكبت داخله إلى أن يصل لمرحلة اللاوعي ويصبح في نظر البعض مجنوناً (والله جد)!
ولكن ماهو الجنون والمرض النفسي، هنالك خلط بينهما بشكل كبير، خاصة أن البعض يفسر زيارتك لطبيب نفسي بأنك معتوه أو مجنون رغم حاجتنا جميعاً لطبيب نفسي نراجعه من وقت لآخر لتخفيف شدة التوترات التي نعيشها، ومعرفة كيفية تجاوز الضغوطات بشكل لا يؤثر على نفسياتنا وينعكس سلباً على تفاصيل حياتنا. وكيف يمكننا أن نتخطى حاجز التوتر وعدم الدخول في (النفسنة) التي يمكن أن تصل لمرحلة الاكتئاب النفسي وهذا يعد من أخطر أنواع المرض النفسي فقد يقودك إلى إدمان شيء ما ومنها قرار إنهاء حياتك (تخيل)!
كثيرة هي الأسباب التي تقودنا للصعود على أدراج المرض النفسي، ولكن علينا أن نكون أقوى منها وأن نحاول دائماً إيجاد حلول مناسبة والخروج من عنق زجاجة (النفسنة).
أدرك تماماً أن الأمر يعد صعباً للبعض خاصة من الذين يعيشون دوامة من التوترات والأزمات والصدمات، ولكن ليس هنالك ما يستحق أن نقفل أنفسنا ونفسياتنا في زجاجة ونقذفها في بحر الاكتئاب أو التوتر، لذلك علينا دائماً البحث عن أشخاص يمكن أن يتحملونا بحلونا ومرنا.. وعلينا أيضاً أن نحترم حياة الغير وعدم زيادة الأعباء النفسية عليهم، فلا أحد تنقصه هموم أو ضغوط، علينا أن نكون خفاف الظل على غيرنا، بكلماتنا وأفعالنا وسلوكنا وحتى نظرتنا يجب ألا تكون سبباً في توتر أحد ولا إغضابه، يكفي ما يعيشه من صراع داخلي بينه ونفسه، فلا الضحكات تعني السعادة كلها ولا حتى البكاء يعني الحزن، فقد يحاول البعض عكس ما يدور داخله بشكل مزيف فقط كي لا ينقل للطرف الآخر صراعه الداخلي (والله جد)!
جرأة أخيرة
إذا لم تستطع أن تكون سبباً في سعادة أحد فلا تجعل نفسك أحد أسباب حزنه.