تقرير: محمد عبد الحميد
ما زالت آثار وتداعيات إغلاق الموانئ وشرق السودان التي نشبت في العام الماضي، ماثلةً حتى الآن، ولم يتعافى منها اقتصاد البلاد المأزوم. وما أشبه الليلة بالبارحة، فكلما اشتد عود الصراع السياسي بين (الفرقاء) من أبناء الوطن الواحد، وتباعدت مسافات الالتقاء الفكري والوجداني وقبول الآخر بالإقصاء، وعبثت بالعقول الأجندة الخارجية، ولعبت بالقلوب الأيادي الاستخباراتية، استعرت نيران الخلاف، ودُقت طبول الحرب، وأُريقت دماء السودانيين، وعُطلت قنوات ومصادر أرزاقهم، وتوقفت الحياة. وها نحن ذا، حسب مراقبين، قد بدأنا نعود إلى المربع (الصفري)، في أعقاب توقيع (الاتفاق الإطاري)، بين المكون العسكري وقوى من الحرية والتغيير، وأجسام وأحزاب وكتل أخرى، بينما تصدت للاتفاق فئةٌ كبيرةٌ رافضة من مختلف المكونات الاجتماعية والسياسية، ومن ضمنها مكونات بشرق البلاد.
مجموعة مسلحة
أعلنت مجموعة مسلحة، أمس الأول، الأربعاء، إغلاق الميناء الجنوبي على ساحل البحر الأحمر، رفضاً لما اسمته “تجاوز شرق السودان في الاتفاق الإطاري الموقع بين القادة العسكريين وقوى سياسية”، في وقت، قلل فيه تجمّع عمال الموانئ من الخطوة، مبدياً رفضه لأي اتجاه لإغلاق جديد يطال المنشآت البحرية. ويثير ذلك سؤالاً مهماً، هل يُجهض إغلاق الشرق مرةً أخرى، العملية السياسية الجارية الآن والتي تم بموجبها توقيع (الاتفاق الإطاري)؟ وهل يقود لانقلاب مضاد؟
وتوصل قادة الجيش ونحو (52) من القوى السياسية المؤيدة للديمقراطية، الإثنين الماضي 5 ديسمبر 2022م، لاتفاق إطاري من شأنه أن ينهي هيمنة العسكريين على السلطة، بينما تطرق الاتفاق ضمن بنوده، لوضع حد لأزمة الشرق.
في غضون ذلك، قال قائد قوات تحالف أحزاب وحركات شرق السودان، ضرار أحمد ضرار عمر، الشهير بـ”شيبة ضرار”، لـ “سودان تربيون”: (بدأ مساء الأربعاء، إغلاق الميناء الجنوبي، بسبب تجاوز شرق السودان في الاتفاق الإطاري). وهدد بمزيد من التصعيد، بإغلاق منشآت جديدة، فضلاً عن طريق قومي حيوي “بورتسودان – الخرطوم” يصل مناطق الإنتاج بالموانئ، بجانب وقف أعمال هيئة السكة الحديد. ووجه ضرار انتقادات لاذعة للأحزاب السياسية الموقعة على الاتفاق الإطاري، وللمكون العسكري فيما وصفهم بـ”القلة”.
نهب ثروات
وقاد رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، محمد الأمين تِرك، محتجي البجا لإغلاق موانئ البلاد الرئيسة لأكثر من شهر، الأمر الذي يُعتقد على نطاق واسع بأنه مهد الطريق للجيش للاستيلاء على السلطة في 25 أكتوبر 2021م.
بالمقابل، أكد شيبة ضرار، أن ما تم التوقيع عليه لا يمثل كل السودانيين، وتم فرضه على الموقعين من قبل جهات أجنبية، واتهم حركات مسلحة -لم يسمها- بالتورط في نهب ثروات شرق السودان بغرض إفقار سكان الإقليم. وتابع: “لن نصمت بعد اليوم، ويجب علينا أن نتكاتف لنيل حقوقنا كاملة، وعلى أهل الشمال والوسط الاستعداد للتصعيد”.
وبرز شيبة ضرار، وهو أحد المقربين من والي البحر الأحمر الأسبق وآخر رئيس وزراء في حقبة نظام المعزول عمر البشير، محمد طاهر ايلا، عقب التوقيع على اتفاقية جوبا للسلام، مطالباً بمعاملته أسوة ببقية الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق.
ويثير الرجل بتحركاته وآلياته العسكرية وجنوده المدججين بالسلاح، جدلاً واسعاً في ولاية البحر الأحمر. ونظم شيبة خواتيم نوفمبر المُنصرم، احتفالاً ضخماً على شرف عودة “ايلا” إلى البلاد، وتحدث فيه الأخير بلهجة البجا، معلناً تأييده لمنح إقليم شرق السودان حق تقرير المصير، وحاثاً المجموعات الشبابية للالتحاق بالتجنيد في القوات التي يقودها ضرار.
بذور الفتنة
في مقابل ذلك، نبّه أستاذ العلاقات الدولية، نصر الدين التجاني، في حديثه لـ(الانتباهة)، الحكومة إلى قضية الشرق، والتي وصفها بالأكثر خطورةً من قضيتي (دارفور، والمناطق الثلاث)، ومكمن الخطورة، في أن الشرق هو شريان الحياة والبوابة البحرية الوحيدة للسودان، وفيما له من فوائد ومهام كثيرة للبلاد والبحر الأحمر عموماً. أضاف التجاني، الشرق مطالبه معينة، أولها عدم عمل اتفاق دون مشاركة أهل الحق في بنائه، مشدداً على مشاركة كل أهل الشرق لأنهم أصحاب المصلحة الحقيقية. وأطلق الأستاذ، تحذيرات جدية، من إمكانية حدوث تمرد يقود لتدخل استخباراتي، يضع بدوره، بذور الفتنة لبدايات انفصال شرق السودان، أو ترسيخ دعوة “الحكم الذاتي” الذي يؤدي للانفصال.
في غضون ذلك، وصف ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتس، خلال إحاطة لمجلس الأمن الدولي، الأربعاء، حول جهود الآلية الثلاثية (إيقاد، والأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي)، لتسهيل حوار الفرقاء السودانيين، توقيع إطار اتفاق بين القادة العسكريين والمدنيين في السودان بـ”المشجع”، لكن ذلك لم يمنعه من إبداء مخاوفه بشأن إمكانية انحراف المسار السياسي جراء التحديات والمفسدين، حسب وصفه. غير أنه عاد وأشار إلى إمكانية الحفاظ على الاتفاق من تأثيرهم عبر إطلاق عملية شاملة.
وذكرت مصادر لـ(الانتباهة)، فضلت حجب اسمها، في وقت سابق لتوقيع الاتفاق الإطاري، أن رئيس بعثة “يونيتامس” فولكر بيرتس، يسعى بكل ما أوتي من قوة لحث الأطراف على توقيع “الإطاري”، لأنه في “كف عفريت” كما قالت المصادر، بسبب رغبته في تجديد تفويضه الأُممي قبل نهاية العام الحالي.
فكرة شيطانية
ويرى أستاذ العلاقات الدولية، نصر الدين التجاني، أن المشكلة في الشرق ليست مربوطة بـ”شيبة” أو “تِرك”، أو”ايلا”، أو”دقلل”، ولكنها مشكلات حقيقية تتعلق بقسمة السُلطة، والثروة، والأمن، والحقوق المرتبطة بالمؤسسات الاقتصادية كالموانئ والمعادن، في وقت أبدى فيه عدم تخوفه من وجود انفلات، لكنه لم يستبعد بروز شخصيات متمترسة حول “فكرة شيطانية” تقود للانفصال، مشيراً أن الحكاية ليست بقايا “مؤتمر وطني”، بقدر ما هي “قبلية”، لأنها أهم من أي شيء، وبالأخص قبيلة “الهدندوة”. وقال: (لا يجب التعامل مع قضية الشرق ككرت ضد الاتفاق الحالي)، غير أنه لفت إلى وجود استغلال للوقت تجاه قضية الشرق.
يتفق مراقبون، مع ما ذهب إليه التجاني، وتساءلوا عن أسباب الإبقاء على قضية الشرق دون معالجة وحسم لقضاياه حتى الآن، والممانعة في فتح اتفاق سلام جوبا، ومعالجة موضوع مسار الشرق المرفوض في الإقليم، وقيام منبر تفاوضي منفصل لمعالجة القضايا الرئيسة بالإقليم.
الانتباهة